الاثنين، 24 يناير 2011

عامل وطن: مكنسة تنحني لها الأرض وذكريات بلون "البرتقال"

أبو إبراهيم أثناء تنظيفه ساحة المسجد الحسيني بوسط البلد - (تصوير: محمد مغايضة)



فوزي باكير


بزيّه البرتقالي المضيء، ومكنسته التي يسند عليها عمرا من التفاصيل، والتي تلمّ عن الشوارع أوراق خريف أيامه، وذكريات الناس والعشاق الذين مرّوا، تاركين له ظلالهم تحدّق فيه، يمضي "أبو إبراهيم" في ساحة المسجد الحسينيّ في وسط البلد يومه..

بعبارة "ما بعرف"!، ردّ "أبو إبراهيم" على سؤال كم كان عمرُك عندما بدأت العمل؟ فهو يعلم أنه بدأ عمله "كعامل وطن" منذ عشرين عاما، على الرغم من أنه لا يذكر كم كان يبلغ من العمر حينها، لكنه يدري أنه يبلغ من التعب الآن ثمانية وخمسين عاما!
يستيقظ عند الفجر، يصلي رافعا يديه إلى ربه، داعيا له أن يحفظ صحته وعافيته، كي يدوم عمله ليظلّل أفراد أسرته (زوجته وبناته الثلاث وأولاده الأربعة)، بكفيه الهرمتين. يقول، "بصحى عالخمسة الصبح، بصلّي وبدعي لربّي يخلّي صحتي منيحة عشان أضل معيّش هالبيت"..
من يصافحه، يلمس نقشا على كفه لا يقلّ عمره عن تاريخ عمّان القديم! وكذلك ملامح وجهه، التي تروي سيرة أزقّة البلد القديمة، حيث يسردها شارعا.. شارعا...
يقول أبو إبراهيم "أحب فكرة العمل في هذه المنطقة، فالناس هنا بسطاء، وتعاملنا يقوم على الاحترام والتقدير، ودائما نشرب الشاي ونتناول وجبات الإفطار مع أصحاب الدكاكين، وأشعر بانتماء لهذه الشوارع والجدران، أحب كل ما هو متعلق بهذا المكان".
أما أحب الألوان لأبي إبراهيم فهو اللون البرتقالي؛ لأنه رفيقه الدائم "أفتخر بملابس العمل، ولا أحبّ ارتداء القفّازات، يداي تعملان كما أشاء لهما أنا"، كأنّه يجدُ الحكمةَ في يديه..
يوم الجمعة، لا يستريح فيه أبو إبراهيم؛ إذ يسير على قدميه من بيته في "جبل الأشرفيّة" حيث عمله الإضافيّ.. وعندما واجه سؤال "لماذا لا تأخذ هذا اليوم للرّاحة؟"، أشاحَ بنظره عن السؤال مُحدِّقا باتجاه آخر، وكان الأسى ظاهرا على وجهه، والعابرون في الشارعِ مرّوا صورة في عينيه، أغرابا، ثمّ راوغ السؤال معاتبا بابتسامة "بدنا نعيش"..
صيف أبي إبراهيم كشتائه، سيّان، وعن ذلك يقول:"كلّو واحد، صيف وشتا ما في فرق، شغّال عالجهتين ومبسوط"، وللمفارقة أيضا، فإن كلمة "زبّال" وعبارة "عامل وطن" لا فرق بينهما لديه، فكلتاهما تعبيرٌ عن عمل واحد، "اعتاد الجميعُ أن يناديني بـ "أبو إبراهيم"، فلم يعد أحد يُشير لي ويقول "هذا زبّال"، الأطفال ينادونني "عمّو" وإن فعلها أحدهم وقال هذا زبّال، فلا بأس".
عشرون عاما عاد بها أبو إبراهيم إلى الوراء، إلى أوّل يوم عمل فيه ..
"ارتديتُ ملابس العمل وحملتُ المكنسةَ ومضيتُ إلى الشّارع .. وقفتُ خائفا، خجولا ومتردّدا من البدء في العمل أمام النّاس، فرآني صاحب أحد الدّكاكين وجاء إليّ يسألني ما بك؟ وأخذني إلى دكّانِه وشربتُ كأسا من الشّاي، وأقنعني أنه ليس في عملي ما يعيب على الإطلاق، وإن أتى مسؤولي ورأى أني لم أعمل بعد، ستكون العواقب وخيمة"، لينهض أبو إبراهيم حينئذ ويباشر عمله الذي يرافقه منذ عشرين عاما.. وحتّى آخر ورقة ملقاة على أرض ساحة الحسيني..
عند الثانية والنصف ظهرا ينتهي الدّوام.. يذهبُ بعدها أبو إبراهيم ليشتري الحلويّات لأحفادهِ.. ليعود سيرا إلى "جبل الأشرفيّة" تلفّه الطريقُ والزّحام، مُختفيا عن الأنظار، يصلُ إلى بيته..
"أفصل "مقشّة المكنسة" عن العصا، وعند وصولي أدقُّ بها على الأرضِ مُعلِنا عودتي إليهم، فيأتي أحفادي يركضون نحوي.."، يركضون لاستقبال جدّهم الذي يحمل لهم الحلوى في كفٍّ، وفي الأخرى يحمل مرارةَ أيّامه.


  
                                                                                                                                                        
نُشر  في صـحيفة الغد الأردنية 
بتاريخ 16/10/2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق