الأربعاء، 3 أبريل 2013

الطّريقُ السّريّة بين الحربِ والحديقة






فوزي باكير


يمكننا القول إنّ وظيفة الشّعر- كجزء من العمليّة الإبداعيّة- هو أن يلتقطَ الومضةَ من خلال وضعِ واقِعَيْن منفصلين جنبًا إلى جنب؛ فالحربُ مثلًا، واقعٌ مؤلمٌ ودمويٌّ، لكنَّ الحديقةَ بالمقابلِ، هي واقعٌ جماليٌّ أيضًا، فيأتي الشّعرُ هنا، ليلتقطَ ومضتَه من خلالِ الانتصار للحديقة، بأشجارها وفراشاتِها والأطفال الذين يلعبونَ فيها، ففي هذا الفعلِ، هجاءٌ للحربِ وانحيازٌ للمظلوم، فالطّغاةُ والمحتلّونَ مثلًا، لا يمكنهم الانتماء لفكرة الحديقة، لكنّ امرأةً ما، تُضمدُّ جُرحًا، وتُغطِّي وجهَ شهيدٍ بدمعتِها، تعرفُ الحديقةَ جيّدًا، لأنّها هي التي تفتحُ بابَها كلّ صباح، وعلى الشّعر هنا أن ينحاز لهذه الامرأة، وفي هذا نيلٌ من الطّغاة.


فما جدوى أن أصفَ الحربَ وأُعيدَ إنتاجَها كما هي للمتلقّي؟ فهذا ما يراه دائمًا عبرَ شاشات التّلفاز والصّحف، والشّاعرُ ليسَ صحافيًّا ولا ناقلًا لما يحصل، وإنّما هو متأمِّلٌ فيه، يرصدهُ ليعيدَ إنتاجه بشكلٍ فني ومغاير، يُحدِّقُ من خلالِه على قوّة الوردةِ التي تنمو وتكبرُ رغم أنفِ الحرب، والوردةُ هنا قد تكونُ طفلًا وُلِدَ للتّوِّ تحتَ القصف، أو طيرًا تدبّرَ أمرهُ وبنى عشَّه على سطح بيت، أو امرأةً خرجَت تحت زخّ الرّصاصِ لتشتري خُبزًا، قد تكون ابنةُ السّجّانِ الـمُراهقة والتي تسكنُ في قصّةِ حُبٍّ وتلتقي عاشقَها في مخبءٍ بعيدٍ عن العيون! فكلُّ هذه الـحَيَواتُ السّريّة التي تُعاشُ تحت القهرِ والتّجويع والنّيران، جديرةٌ بالاحتفاء.


ومن جهةٍ أخرى، فالشّعرُ أيضًا ينحو لإيجاد أفكارٍ متفرَّدة ليضيفَها إلى مجموع النِّتاج الإنسانيّ، من خلال الأسئلة التي يطرحها عن الوجود وجدواه، من خلال معاينتِه لهواجس الإنسان أينما كان، ومن خلال نقلِ قضاياه الشّخصيّة والمحليّة لتعميمِها وجعلها قضايا إنسانيّة عامّة، فلماذا يستحوذُ شّعراء من ثقافات أخرى أمثال رامبو وجاك بريفير وأوكتافيو باث وغيرهم على اهتمامِنا؟ ما الذي ربطنا بهم وجعلنا متأثّرين بمنجزهم؟ أليسَ الشّعر ورسالتهم الفنية الإنسانيّة التي نقلوا من خلالِها همَّهم الفرديّ والجمعيّ، ليصيرَ همًّا إنسانيًّا؟ وما الذي يدعو ثقافات أخرى أيضًا لترجمة شعرائنا العرب وقراءة أعمالهم؟ لأنّ لدينا قولنا أيضًا وهمومنا اليوميّة التي تتقاطع معهم، وتُعرِّفهم على قضايانا، وحتّى الهمّ الشّخصيّ البَحتْ، يُصبحُ جمعيًّا وعامًّا عندما يتقاطعُ مع الآخرين الذين يصاحبهم الهمّ نفسه.

مُخطئٌ من يظنُّ أنَّ على القصيدةِ أن تكونَ بيانًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا، فلكلِّ أمرٍ تخصّصه ومتخصّصيه، ليست مهنة الشّاعر أن يُقدِّمَ موقفَه السّياسيّ مباشرة في قصيدتِه، القصيدة موقف إنسانيّ وفني ينتصر للحياة. علينا أن نُفكِّرَ بطريقةٍ أُخرى، فالمقالةُ الصّحافيّة ونشرةُ الأخبار شيء، والقصيدة شيء آخر، فوظيفةُ الشّعر أن يُقدِّمَ قولًا مُختلفًا وجماليًّا، وليسَ مجرَّد بلاغة محشوّةً بالخطاباتِ والشّعارات الرّنّانة التي تقوم على ابتزاز عواطف الآخرين، فتلك الشّهقة أو القشعريرة التي تصدرُ من المتلقّي حينَ يقرأ قصيدة، تعني أنَّ الشّعر يؤدّي وظيفتَهُ الإنسانيّة بكلِّ نواحيها، فهو يتجاوز الجغرافيا والتّاريخ، ليحترمَ الوعيَ الإنسانيَّ المحليّ والعامّ، ويخاطبه بما يُدهشه، فالعمليّة تكامليّة، بين من يرصدون الهواجسَ السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّةِ في مقالاتِهم وأخبارهم، وبين الشّعراء الذين يقترحون الفن والاختلاف، فالقصيدةُ، مهما حاولَت، لن تُرمِّمَ جدارًا ساقطًا، ولن تُعيدَ الحقَّ الضّائع إلى أصحابِه، لكنَّها معادلٌ موضوعيٌّ لهذه المأساة، فالمتلقّي سيقرأ مشاكلَه في المقالةِ أو الرّأي، لكن أيضًا لا يُمكن تجريده من الشعور الفنّي، الذي سيجده في القصيدة أو اللوحة أو أيّ عمل إبداعيّ... العملُ الإبداعيّ فُسحة خلاقة، أو نُزهة عميقة، يتخفّف عبرَها القارئُ من أثقال الواقع.

فلتكُنْ إذن العلاقة تكامليّة، ضمنَ شرطِ الإبداع الأساسيّ، وهو الجديد والمختلف الذي يُضاف على مجموع النِّتاج الإنسانيّ، وكلٌّ له طريقه وطريقته في رصدِ الهواجس الإنسانيّة، كلٌّ له رسالته وقدرتَه على الإضافة، فلنفسح المجال للجميع في التّعبير، دون أن نطالبَ أحدًا بأن يُقدِّمَ قولَه أو عملَهُ على مقاساتِ ذائقة قديمة، فلنسفحِ المجال للذائقة الجديدة أن تنمو، في بيئة شعرية تحترمَ وعي المتلقي وتعتبره شريكاً لا مستهلكاً.
Top of Form


نُشرَ في القُدس العربي

بتاريخ: 13 / 03 / 2013

هناك تعليق واحد:

  1. وعي المتلقي نحن بحاجة اليه دائما
    القصيدة موقف انساني وفني ولكن هل يجب ان تعكس تناقضات الحياة الانسانية ايمكن ان يكون النتاج التناقضات كالكذب والصدق او الحياة والموت او الحب واللا شعور هل يمكن للصدفة ان توقف حياة !

    ردحذف