الأربعاء، 3 أبريل 2013

"هيتشكوك" أنتوني هوبكينز: استعادة عبقري سايكو





فوزي باكير

لم يكُن فيلم الفنّان البريطاني "أنتوني هوبكينز" الجديد؛ "هيتشكوك"، والذي أخرجه "ساشا جرفازي"، سيرة ذاتيّة سينمائيّةٍ لسيد أفلام الرعب والتشويق "ألفريد هيتشكوك"، وإنّما تمّ تقديم شخصيّة هيتشكوك من خلال عمله على واحدٍ من أهمّ أفلامه ("سايكو" 1960)، والذي ترك علامة في تاريخ الشاشة الفضية.


شاركت الممثلة "هيلين ميرين" بطولة الفيلم بجانب "هوبكينز"، إذ جسّدت دور زوجة "هيتشكوك"؛ "ألـمَا"، التي رافقته طوال مسيرته في الإخراج. يبدأ الفيلم بإظهار طبيعة علاقته معها- والتي ينتابها شيءٌ من الفكاهة الدراميّة- فكلاهُما مُسنٌّ، يشفقُ على نفسِه، وعلى الآخر، خصوصًا "هيتشكوك"، الذي يُحاول أن يكون مُتصابيًا في بعض الأحيان، فلا يمتنع عن شرب الكحول كما يأمره الطبيب، ولا يمتنع عن تناول بعض الأطعمة التي تزيدُ من بدانتِه، والأهمّ، أنّه لا يمتنع عن مُغازلة بطلاتِ أفلامه والتقرّب منهنّ، وهذا ما يُثيرُ حفيظة "ألما"، فهي تغارُ من جهةٍ، ومن أُخرى تشعرُ أنّها كبرَت، ولم تعُد لتلفتَ زوجَها.

يتعرّف "هيتشكوك" على رواية "سايكو"، للكاتب الأمريكي "روبرت بلوتش"، وهنا تبدأ رحلة هذا الـمُخرج، المولود في 1899، مع فيلمه الذي لم تقبل شركات الإنتاج الإنفاق عليه، إذ لم ترُق لها فكرة الرواية، التي تتحدث عن قاتل مُتسلسل ومريض نفسيًّا "إد جين". لم يتقبّلوا الأمر مُستخفّين بالفكرة، فتظهر هنا شخصيّة "هيتشكوك" العنيدة جدًّا والواثقة بنفسِها، متفوِّقًا بعض الشّيء على عُقدتِه من تقدُّمِه في السِّن، فأصرَّ أن يُكمل العمل على هذه الفكرة، ليُنتِجَها كفيلم على نفقته الخاصّة، رُغم اعتراض معظم من حوله، بمن فيهم زوجته وأصدقاؤه والعاملون معه.

يُخطِّط صاحب "الطّيور" لفيلمه، يختار الـمُمثّلَين الرّئيسيين، البطلة التي تموت في الثّلث الأوّل من "سايكو"، وهي الفنانّة "جنيت لاي"، وأدّت دورها "سكارليت جوهانسون"، وحين يلتقيها "هيتشكوك" وزوجته، يذهب لمغازلتِها وتقديم الإطراءات لها، كأنّه شابٌّ صغيرٌ من عُمرِها، مُقارنًا، في سرّه، بين "ألما" و"جنيت"، ثمّ يشرح لها الدّور ويتّفقان على العمل معًا.

أمّا القاتل، "إد جين"، فكان يسكنُ "هيتشكوك"، ويشكِّلُ له هاجسًا، كأنّ "هيتشكوك" يرى شيئًا من نفسِه في هذا القاتِل، فالشّكوك التي كانت تساوِره تجاه زوجته وعلاقتها مع الكاتب التي انشغلت معه في كتابة سيناريو فيلم ما، كان يُعزّزها "إد جين"، وهنا تظهر علاقة الـمُخرج بشخصيّات النّص، أو التّشابه بينهما، فـ"إد جين" لم يكُن سويًّا بطبيعةِ الحال، ولعلّ "هيتشكوك" انتبَهَ إلى أنّ القاتلَ يُعبّر عن جزءٍ ما من شخصيّته، فراح يتخيّل نفسه معه، يجالسه ويتحدّث إليه ويشكو له.

ونرى علاقة "هيتشكوك" مع الرّقابة الأمريكية، التي كانت صارمة آنذاك يُعبِّر عنها ساخرًا "الذّهاب إلى طبيب الأسنان، أهون من لقاءِ الرّقيب"، ولعلّها حقيقةٌ إلى حدٍّ كبير، ويذهب صاحب "فيرتغو"، ليلتقي بلجنة الرّقابة، والتي تُضيّق الخناقَ عليه طالبةً منه حذف العديد من المشاهد الـمُهمّة في الفيلم، والتّعديل على بعضِها، مثل المشهد الذي أسّسَ لأفكارٍ عديدةٍ في السّينما لاحقًا، وهو مشهد قتل البطلة في حوض الاستحمام الذي ظهر لأول مرة في فيلم سايكو. "هيتشكوك" من خلال مُزاحه وردوده السّاخرة حاول محايلة الرقباء وامتصاصهم بالفُكاهة لعلّهم يُخفِّفوا من صرامتِهم، لكن دون جدوى، بل هدّدوه بإيقاف العمل كاملًا.

تتزايد شكوك "هيتشكوك" بعلاقةِ زوجته مع "ويت"، الرجل الذي تشاركه تأليف السيناريو، ويقترب من اليقين بأنّ خيانةً زوجيّةً من جهتِها تحصل، فيتّهمها بشكلٍ مُباشرٍ بذلك، لكن الحقيقة أنّها لم تفعل، فانفجرت به بردٍّ قاسٍ مثل التُّهمة، مُبيّنةً له شقاءَها وتفانيها من أجله، إلّا أنّه لا يكترث سوى لنفسه وشُهرته، فلم يجد سوى الخجل والصّمت كملجأٍ يأوي إليه، ومتابعة عمله على "سايكو".

وهنا يبلغُ الفيلمُ ذروته، في واحدٍ رُبما من أجمل مشاهده التي أبدع فيها هوبكنز، فحين كان يصوّر "هيتشكوك" مشهد الاستحمام، لم يُعجبه آداء الممثّلة وهي تصرخ خوفًا من الشخص الغامض الذي دخل عليها بسكّينٍ ليقتلَها، فقطع التّصوير، واقتحمَ الحوضَ، فاتحًا السّتارةَ عليها وهي عارية بالكامل، حمل السّكّين وراح يطعنُ الهواءَ من حولِها، وأخذت تصرخُ لكن ليس تمثيلًا، وإنّما خوفًا من سلوك "هيتشكوك" الجنونيّ، كان يفعل هذا وهو يتخيّل "ويت" والرّقيب والـمُنتج الذي رفض دعم الفيلم كأنّهم في الحوض، وكأنّ الطّعنات تُغرزُ في ظهورِهم، حتّى انتبَه لما يفعل، فهدأ، وحدّق في ممثّلته قائلًا: "هكذا أريدُ صراخَكِ، كأنّ الأمر حقيقيٌّ"، ورمى السّكين ومضى.

وبعد تحفُّظ الرّقابة مرّة أُخرى على بعض مشاهد الفيلم، استندَ "هيتشكوك" على "ألما"، لتساعدَه في إعادة مونتاج الفيلم، وقدّمت له كلّ ما في وسعها، حتّى خرجوا بصيغةٍ نهائيّةٍ من "سايكو"، حقّق فيها نجاحًا هائلاً، لم تحقّق أفلامه بعدها مثله.

هكذا يُلخّص الفيلم طبيعة شخصيّة هيتشكوك، بتناقُضاتِها وجماليّاتِها وأعبائها النّفسيّة والدّراميّة، وبذات الوقت، قدرته على المضيّ في عملِه بإخلاصٍ وتفانٍ، ليكون واحدًا من علامات السينما، رُغم أنّه لم يحصل على جائزةِ أوسكار واحدة.

________________________________________________________________
نُشرَ في "الأخبار" اللبنانيّة

بتاريخ: 18 / 02 / 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق