الثلاثاء، 25 يناير 2011

الخطّاط عبد الجوخي.. ينقشُ خمسين عاما من الطّرقات في قلب عمّان

الخطاط عبدالرحمن الجوخي يزين لوحات خشبية بالخط العربي في محله قرب البريد وسط البلد - (تصوير: محمد مغايضة)




فوزي باكير


يداهُ نحيلتان، تشبهان القصب الذي ينفثُ فيه من الحبرِ روحا، ليخطَّ على وجه مداهُ الهَرِم أولى كلماته في الصّباح "أصبحنا، وأصبحَ الملكُ للّه"، ثمّ يمضي إلى مرسمه، قرب البريد في "وسط البلد"، هناك زقاقٌ ضيّقٌ، من يبلغ نهايته، ويدخل ذاك الباب الصّغير، سيرى رجلا يجلس على الأرض يلمّ نفسه ويضمّها كأنّها ابنته!  يُدعى "عبد الرحمن الجوخي"، أو (عبد الجوخي) كما أصرّ هو "فعبد الجوخي هو اسمي الفنّي والذي أوقّع فيه لوحتي بعد انتهائي من تخطيطها، فليس من المعقول أن أكتبه كاملا، لأنه سيأخذ مساحةً كبيرةً من اللوحة، وسيظهر كأنه شيء من الغرور."


منذ ما يقارب الخمسين عاما، يعملُ الجوخي (أبو محمد) كخطّاط في نهاية ذاك الزّقاق، بدأ الأمر معه هوايةً في مرحلته الابتدائية أيّام (الكتاتيب)، فكان أثناء الحصّة أحيانا ينسى المعلم ويبدأ بتقليد الخطوط المكتوبة على الكراريس، وكان يشاركُ دوما في درس الخطّ.

"كان الأستاذ يكتب جملةً على اللوح، ويطلب أن يأتي أحدنا كي يخطّطها، فكنتُ أذهب وأكتبها، فيتفاجأ الأستاذ، مُبديا إعجابَه ومُعترفا بتفوّقي عليه" ويضيف الجوخي "الأستاذ أكاديميّ فقط، فهو لا يمتلك الموهبة التي أمتلكها أنا بفضل الله الذي أهداني إيّاها."

ولم يكن الجوخي فقط خطّاطَ المدرسة، بل كان من حفظةِ القرآن الكريم، وعند انتقاله لمدرسة "العسبليّة" الحكومية، والتي تقع قرب المدرّج الرّوماني، كان مُقرِىء المدرسة. بشيءٍ من الفخر والاعتداد بالنّفس والامتنان لله سبحانه وتعالى، وضّح "أبو محمد"
"كّنا نعشق صوت الشّيخين (عبد الباسط عبد الصّمد) والشيخ (مصطفى إسماعيل) ونصغي لهما دائما، فتعلّمت القراءة السليمة المجوّدة للقرآن الكريم وحفظته، كما أنّ الخط العربيّ مُقترنٌ بالقرآن، لأنّه عربيّ طبعا، ويُكتَبُ بخطٍّ بديع."
وكانت متطلّبات الحياة في ذاك الزّمن قاسية وصعبة، لهذا، كان الجوخي يذهب بعد انتهاء دوامه في المدرسة لأفضل الخطّاطين ليتدرّب، كنوعٍ من العمل، استمرّ تدريبه لما يقارب الثلاث سنوات، وفي تلك الفترة كان يُنجزُ أعمالا ويتقاضى عليها أجرا.

"كان عَلَيّ أن أعمل وأتعلّم، فالتدريب والعملُ هما صقلٌ لموهبتي، وكان عليّ تطويرها لأنني كنت أطمحُ للتفرّغ لها مستقبلا كي تصبح مهنتي، كما أنّهما دخلٌ مادّيّ لا بأس به، فلم تكن الحياة سهلة آنذاك.."

وآخر مراحله في المدرسة كان (الماتريك)، فحصل عليه ثمّ ذهب لاستكمالِ دراسته في مصر، حيث درس المحاسبة في المعهد الدّولي في القاهرة.

"لم أكمل في مجال الفنون أو ما يشبهها، ذلك لأنني أحبّ التنويع، فالحمد لله أنا أمتلك الموهبة ومواظب على صقلها وتنميتها، فلا داع لتلقّيها أكاديميّا، فقرّرت أن أدرس المحاسبة لإضافة شيء جديد على ثقافتي." مُوضّحا أنّ الخطّاط "مسبِّع الكارات" على حدّ وصفه، لأنه يعمل مع الكهربائي والنجار وغيرها من المهن الأخرى، فعليه فك وتركيب وتصنيع قوالب معيّنة من أجلهم، فمن هنا يأتي إلمامه بالمهن الأخرى.

عمّان في ذاكرته مُقسّمةٌ لثلاث حقبٍ زمنيّة، "عمّان البدوية".. والتي وصفها بالبدائيّة البسيطة "منطقة الدوّار الأول لم تكن سوى مرتعا للضّباعِ والكلاب الضّالّة!"
و"عمّان الريفيّة"، والتي كانت تقوم على الزراعة وصيد السّمك من (سيل عمّان) "عندما كان سيلا حقيقيّا، كنت أذهب وأصدقائي نصطاد السمك من هناك، لكنه الآن صارَ مكبّا للنفايات ولأوساخ الصّرف الصّحيّ!" و"عمّان المدنيّة" وهي التي نعيشُ فيها اليوم.
"أحنّ لتلك الأيّام، كنّا صغارا والحياة بسيطة، ليس فيها مسؤوليّات اليوم، لكن عمّان لم تعد كما هي، كان النّاس قديما أقرب على بعضهم، وأكثر تعاونا، لكنّها تغيّرت، النّاس الآن كلٌّ في همّه وحياته الخاصّة، لم يعد ذاك الدفء موجودا.. أجل، عمّان تغيّرت!"

مَعمَله الأول كان في العبدلي، عند دائرة السّير سابقا، وزارة التربية والتعليم حاليّا، وكان يُصنّع فيه قوالب أرقام السيّارات ويخطّطها، وإلى الآن يحتفظ بتلك القوالب التي صنعتها يداه، يُخبّئها في درجٍ في مرسمه الحاليّ.. أخرجها بعنايةٍ من درجه، ومسكها برفقٍ ولفّ كفّاه عليها نافضا عنها غُبارَ سنينٍ مضت، وأخذ يُحدّق فيها قائلا
"منذ زمنٍ لم أُخرجها من هنا.. وقلّما  أُطلعُ النّاس عليها."

لم يعد "أبو محمد" يعمل كما كان سابقا، فالثّورة التيكنولوجية والحواسيب تعملُ وحدها بكبسة زرّ بسيط، فالذين يصمّمون لوحات الدعاية الانتخابية الآن، هو كان قد علّمهم التخطيط على حدّ قوله، لم يعد الناس يلجؤون إليه كما مضى، ويراوده هاجسٌ أحيانا بأنه يريدُ أن يغلقَ هذا المحل، لكنّه يتراجع دوما عن ذلك.
"هذا المحلُّ جزءٌ منّي، كلُّ قطعةٍ فيه جزءٌ من جسدي، الريشة والأقلام والورق والقصب والقوالب كلّها مني، وإن فارقته أحسّ أنني فارقت روحي، أتمنّى أن أموتَ هنا!."


·       نُشر في صحيفة الغد الأردنية
بتاريخ 22-10-2010



هناك تعليق واحد: