الثلاثاء، 25 يناير 2011

"التبرُّع" يتأرجح بين تغير الأولويات وغياب الدوافع الاجتماعية




فوزي باكير

كان الدّافعُ الإنسانيّ العفوي لدى الأطفال قديما يجعلهم يقسمون مصروفهم المدرسيّ لجزئين، جزء يشتري فيه ما تيسّر له من طعام يتناوله ريثما ينهي دوامه، ليمضي بعد الحصة السابعة إلى بيته متلهّفا لما أعدت له أمه من وجبة الغذاء، والجزء الآخر يتبرّعُ فيه من خلال المدرسة لمؤسسة ما تدعم الفقراء والمحتاجين، كان يفعلها الطفل بفرح وصدق وبلا تفكير، ولكن، لماذا لا يكبر هذا الدافع مع الأطفال ويستمرّ  عطاؤهم العفويّ في السّير معهم؟ هل المدارس لم تعد تمارس هذا الدور التحفيزي؟ أم أن للأسرة دورا مفقودا؟ أم أن الوضعين الاقتصادي والاجتماعي تغيّرا؟


أحالَ دكتور علم الاجتماع حسين خزاعي تراجع عمليّة التبرع في مجتمعنا لعدّة أسباب، موضّحا أن هناك أولويات اقتصادية واجتماعية لم تكن موجودة من قبل، فمتطلبات الحياة  قديما لم تكن مثل الآن، حيث كانت الحياة بسيطة وغير مكلفة، كما أن الفئة المحتاجة من المجتمع كانت معروفة.
"بينما الآن فهناك قيم الغرور والتباهي الكاذب، فلا يستطيع الفقير البوح بفقره وحاجته، ويدّعي الرّضا كي لا يمسّ ذلك كبرياءه، ثقافة العيب مهيمنة الآن."

مشيرا إلى دور المؤسسات التي باتت تتعامل مع الموضوع بشكل آني مؤقت، أي فقط عند الحاجة. وبيّن دور الأسرة المفقود حاليّا في تحفيز الأبناء على هذا الفعل "لا يوجد وقت للجلوس مع الأولاد لإخبارهم عن القديم، وطبيعة الحياة التي كانت أكثر دفئا، فالأسرة اليوم منشغلة عن ذلك بأمور الحياة الخاصة، مما أدى إلى عدم وجود تكافل اجتماعي كما كان، والحياة موجّهة نحو المادة وليس نحو المشاعر والعاطفة والروحانيات."
مضيفا إلى أن الزواج المتأخر مقارنةً فيما مضى يلعب دورا مهمّا، ففترة العزوبية الآن أطول مما كانت عليه قديما، وكلّما طالت، كلّما قلّ الشعور بالمسؤولية اتجاه المجتمع.
أما الأخصائي التربوي د. محمد أبو السعود، بين أن وعي الإنسان قاده لتقدير قيمة المال أكثر، فبدأ البحث عن المتلقي لهذا المال (أي الجهة التي نتبرّع لها)  فأحيانا هناك بعض الجهات تختلس من هذه الأموال، "ويظهر هذا عليهم من خلال الممتلكات التي يحصلون عليها بعض وصول المال إليهم، من سيارات وبيوت وغيرها، ولم يعد هناك لا يوجد شفافية في كيفية إيصال المبالغ، مما أدخل الشك إلينا، وأيضا هناك من استطاع أن يحدد مواطن الفقر والحاجة الحقيقيَين."

ووضح بما يتعلق بقضية تحفيز الأبناء، ممثلا ذلك في دور الأب عندما يخرج مع ابنه مثلا، فإمكانه أن يعطيه مبلغا بسيطا ويطلب منه أن يعطيه لعامل الوطن، مع استمرارية هذا النوع من التصرفات سيكبر مفهوم التبرع والعطاء لدى الطفل، ويبقى ملازما له.

واتفق موقف متخصص الاجتماع والاقتصاد الدكتور حسام عايش مع موقف الدكتور أبو السعود بقضية الجهات الحاصلة على التبرعات، مشيرا إلى أننا لم نعد نعلم من هي الجهة التي نتبرع لها، صار هنالك شكوك في صحّة هذا الجهة وهدفها من الحصول على الأموال "نتفاجأ أن من نتبرع له هو الذي يجب أن يتبرع، فأحيانا يحصلون على الأموال باسم عمل إنساني، لكن في الواقع تكون الأهداف شخصية، كما أن التبرع صار تهمة سياسية، حيث يتم ملاحقة المتبرعين قانونيا، فهناك جهات إرهابية تحصل على أموال لأهداف سياسية معينة، لكنها تخفي ذلك وتطرح نفسها كجهة إنسانية تريد دعم الفقراء مثلا."

واستثار مسألة هدف المتبرّع، والتي كان آداءها يتم بشكل اعتيادي ودون توقع عوائد منه، لكن بعض المتبرعين الآن يحصلون على إعفاء ضريبي، مما أدى إلى تراجعت فكرة التبرع التلقائي، وتحوله إلى سلعة! ولم يعد عملا إنسانيا، على حدّ قوله.


مُقارنا إياها في الغرب
 "تتطور هذه الفكرة باستمرار، وهي جزء أساسي من القيم العامة في مجتمعاتهم، خلافا عنا، لهذا لا يجد الأطفال هذا في أسرهم كجزء أساسي إنساني يُربّى الطفلُ عليه."

ووضح دور تراجع قدرات الناس اقتصاديا، فالأغلب الأعم هم من الموظفين، وسيكون من الصعب عليه اقتطاع مبلغ ما من دخله من أجل التبرع، فعليه التزاماته وأولوياته التي تحول دون ذلك.
"كما أنه لم يعد هناك جدوى من التبرع في قيم بسيطة، فالقيم المادية الكبرى باتت تُعلي من شأن المتبرّع، بينما القيم البسيطة تُسبب خجلا لمن تبرع بها، وهذه من السلبيات التي يعاني منها مجتمعنا."

وبشأن دور المدرسة في تنمية مفهوم التبرع لدى الطلاب، وضّح الشاب عمر أبو ديّة، (25 سنة)، الذي يعمل الآن كمحاسب، أنه لم يكن يُدرك أهمية هذا العمل على المستوى الوطني الإنساني.
"كان يقتصر الموضوع على ما تطلبه المدرسة لا أكثر، فإن صار فيها حملة تبرعية كنت أذهب لأهلي وأطلب منهم مبلغا ما أو مثلا أغراض بيتية (سكّر، أرُز، طحين، .. إلخ..) لكن لم يكن هناك أي تحفيز حقيقي، حتى في المدرسة لم يعلمونا أهمية ذلك بشكل يستفزنا ويثير عاطفتنا مع المحتاجين."

بينما زيد جودة (27 سنة)، أيام وجوده على مقاعد المدرسة، كان من الطلاب الذي ابتعثتهم المدرسة لإحدى حاملاتها التبرعية، فوضح قائلا:
"كانت مدرستي تُقيم الحملات بشكل جيّد، إذ كانت تُرسل بعثةً من طلابها إلى المناطق الفقيرة لكي نرى كيف يعيش الناس هناك، ويخبرونا في المدرسة عن مدى حاجتهم وعن أهمية التواصل معهم وإعطائهم ما نستطيع من مواد عينية أو مالية، فعند ذهابنا كنا نتأثر كثير بما نراه من حالات، لم نكن ندرك أن مجتمعنا يوجد فيه فقر لهذه الدرجة."



نشر في صحيفة الغد
بتاريخ 13-12-2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق