الأحد، 30 يناير 2011

لمبز: الفن لغة خاصة تعكس تراكمات الذاكرة وتشكل هوية عربية تراثية معاصرة

من أعمال التشكيلي فاروق لمبز  - تصوير ساهر قدارة




فوزي باكير


تتجلى مقولة العالم اليوناني إقليدس "الخط هندسة روحانية.. ظهرت بآلة جسمانيّة" في أعمال الفنّان التشكيلي فاروق لمبز، الذي يقدّم الموروث العربي الإسلامي في لوحاته مستخدما فيها أساليب وتقنيات مرئية ذات أبعاد متعدّدة تخرج عن نطاق استيعابها للوهلة الأولى من قبل الفنان نفسه.


ويُركّز لمبز، المولود في عمان 1942، في لوحاته على طرح النّص القرآني بجماليّات تربط بين معنى النّص وشكله الذي يُقدّمه في لوحته، لما في ذلك من أثر روحانيّ وحسيّ على المتلقّي، إذ إن خطّ الثلث، الذي يعتبره لمبز من أجمل الخطوط العربية وأكثرها هيبةً، هو الخط الطاغي على لوحاته، وذلك لجماليّاته وامتيازه بالمرونة ومتانة التركيب وبراعة التأليف.
ويعد لمبز التراث الفني العربي الإسلامي من أغنى الموارد التي يعتمدها الكثير من الفنانين في العالم العربي والإسلامي، مضيفا "هذه الموارد هي من أهم المخزونات الذاتية لهذين العالمين، ويتفاوت أثرها وظهورها في الأعمال الفنية من فنان لآخر، ولا يمكن لأي فنان أن يتجاوزها لعلاقتها الوثيقة بالبيئة والواقع الاجتماعي والعقائدي".
ويؤكد أنها موضوع يرفد الفنان بما يحتاجه للتعبير عن البعدين الزماني والمكاني والسكون والحركة، ذاهبا إلى أن هناك علاقة بين النّص والتعبير عنه شكليّا، فمحتوى النّص ومعناه مرتبطان بشكله وكيفية تقديمه في اللوحة.
ويرى لمبز أنّ الألون المستخدمة في كتابة آية معينة، ناتجة عن معنى هذه الآية ووقعها على كاتبها وملوّنها، موضحا "الفنّ من أقدم اللغات في العالم، فكان الرّسم هو وسيلة التواصل بين الأشخاص، والآن، نحن نكرّسه أيضا لإيصال أفكارنا الروحانية، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بالخط العربيّ والقرآن، فمن خلال تخطيط القرآن وزخرفته وتلوينه، يمنح كلّ هذا اللوحةَ بعدا ثالثا يُميّزها، ويجعلها على تواصل مع المشاهد".
ويبين أن أعماله ليست لنقل مفردات التراث، بل لتكريمه وإعطائه القيمة الفنية الحقيقية التي يستحقها وتقديمه للأجيال المقبلة، معتبرا الفن لغة خاصة تعكس تراكمات الذاكرة والحس الواعي واللاوعي.
الحركة من الميّزات الأساسية والجمالية في أعمال لمبز، فرشاقة الأحرف وتشكيلها يضفيان الرّوح على اللوحة التي إن افتقدت لها تعتبر ميتةً، لا روح فيها ولا جمال، وهي التي تجذب المتلقي وتجعل منه متأمّلا، حتى لو أن تداخل الأحرف حال دون فهم المشاهد للنص المكتوب، لكن هيبة الخط ومرونة الأحرف وشكلها يجذبانه ليطيل التحديق في العملِ المتمثل أمام عينيه.
ويردف "عندما يأتي الأجانب وينظرون إلى اللوحات، يدهشون من هذه الجماليات رغم أنهم لا يفهمون ما هو النص، فجاءت سائحة أميركية وأطالت تأملها في لوحة وابتاعتها وقالت لي بدهشة: أشعر أن هناك ما يمسّ روحي ويربطني بها، لا أستطيع التوقف عن الإمعان بها!".
وفرّق لمبز بين فني الرّسم والتخطيط، فلمبز في الواقع ليس خطّاطا، إنما هو رسّام ومُصمّم، والآلية التي يتبعها في أعماله التي تتعلق بالخط العربيّ هي أن النصوص تكون جاهزة، والبراعة لديه تكمن في كيفيّة جمعها وتركيبها على شكل طبقات وإضافة الألوان عليها، ليكونَ المنتَج النهائي لوحة تعرض تراثا إبداعيا متميزا.
ويقول "الحرف العربي هو الشكل والموضوع والحركة والتجديد المتناهي، ويملك قدرات تشكيلية متميزة تنفرد عن غيره من اللغات، لكي يشكّل مجالا رحبا لإعلان الهوية وتأكيد الثقافة العربية في ثوب المعاصرة، بعيدا عن التغريب، واستمرارية لهوية الشرق وروحانيته".

ويرى أيضا أنّ لكلّ حرف إحساسا ينفرد به، ففي آية "وجعلنا بينكم مودّةً ورحمة" كان التركيز على حرف الواو، مضيفا "ففي خطّ الثلث يظهر الواو على شكل حرف حنون ورقيق، فطريقة رسمه تجعل منه حرفا مُحتويا لما بعده من كلام من ناحيتيّ النّص بحد ذاته والمعنى الذي يرسله النّص للمشاهد، كما أن الألف يظهر كسيف ليقطع في الكلام الذي يتلوه، والصّاد مثلا، بين لفظه ورسمه هناك ارتباطٌ وثيق، فهو في اللفظ من الأحرف الحادّة، ومن يدقق بشكله رسما سيشعر بذلك".
وبهذا الجهد والعمق والإدراك للقيمة الجمالية للأحرف، ترتقي أعمال لمبز لتكون تعبيرا عن قدرة اللغة العربية في ترابطها العميق من كلّ نواحيها، من القواعد وأشكال الحروف وأصواتها وتكوينها وطاقاتها التعبيرية، هذه اللغة التي لن ينضب عطاؤها الجمالي الساحر يوما، ولن يزول.



نُشر  في صـحيفة الغد
بتاريخ 31-01-2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق