الاثنين، 28 فبراير 2011

العمري⁽*⁾: بثقافة اللون وطاقته تفوّق النزلاء على يأسهم وقدّموا اقتراحهم الإبداعيّ



الفنان التشكيلي والخبير في عمليّة الإصلاح في مراكز التأهيل يونس العمري-(تصوير: محمد مغايضة)





*  خبير تشكيلي في مراكز الإصلاح والتأهيل





فوزي باكير




باللون فرّغوا غضبهم ويأسهم، وباللون أيضا رسموا هدوءهم وحلمَهم... ولا تناقض في ذلك، إنّما هو تغيّر الذات الإنسانية وسعيها نحو الأفضل، نحو الجمال والارتقاء بها؛ لتقدّم اقتراحها الإبداعيّ الذي يرصد هواجس الإنسان في طموحه نحو عالم أكثر صفاءً، لتكون بدايتهم الجديدة في حياة مليئة بالحيوية والأمل، بدلا من أن يظلّوا نزلاء خلف قضبان تحاصر روحهم في مراكز الإصلاح والتأهيل.

"يونس العمري"، فنان تشكيليّ، وخبير في عمليّة الإصلاح في المراكز من خلال الفنون التشكيلية، بدأ متطوّعا منذ عامين هناك، ثم عُيّن رسميّا ليعمل مع النّزلاء في تدريبهم وإعطائهم المحاضرات وعقد الدّوارت التي تتعلّق كلّها بالفنّ التشكيليّ.


"عندما بدأنا معهم، كان من الملاحظ أنّ أغلب الألوان التي يستخدمها النزلاء في التعبير عن مشاعرهم هي ألوان ناريّة وقاسية، تعبّر عن غضبهم وتوتّرهم ويأسهم، وبهذا تمكّنا من تركهم ليفرّغوا هذه المشاعر السلبيّة التي يحملونها، ومع مرور الوقت، وبعد تحسين صحّتهم النّفسيّة، وجدنا أنّ الألوان تغيّرت، وملامح اللوحة كلّها صارت تتّسم بالهدوء".

ومن هنا، يُلاحظ أهميّة الطّاقة الكامنة في الألوان وأثرها النّفسي على النزيل، فوفقا للعمري، بدأ النّزلاء بعد مرحلة معينة باستخدام الألوان الباردة والهادئة التي تستدعي الطُّمأنينة والسكينة لنفسه وللمشاهد للّوحة، فكان اللون الأزرق والأخضر والزّهري حاضرين بشدّة في أعمالهم، لكل لون مدلوله النفسي، وبالمجمل كلها ألوان مرتبطة بحب الطبيعة والتأمّل الإيجابيّ، فاللون الزهري مثلا، طاقته تنظم عملية دقات القلب مما يريح من نفس الرسّام والمتلقّي، بينما البنّي يستعدي انتماء النزيل لتراب وطنه ودفئه. ويضيف العمري "كان وصولهم لهذه الألوان تلقائيّا، ومع المحاضرات المستمرة، نضج وعيهم اتجاه القيمة اللونية، أصبح خيالهم أكثر جموحا وحساسية اتجاه ما يدور حولهم من أحداث ومشاهد وتفاصيل، مما انعكس إيجابيا على عطائهم الإبداعيّ".

ومن ضمن توجّهات مديرية الأمن العام، يتم انتقاء مدراء ليسوا متعلمين وحسب، وإنما مثقفين أيضا، ليديروا مراكز الإصلاح والتأهيل، وهذا يساهم أيضا في عطاء النزلاء، لأن المدراء دائمو الاهتمام والمتابعة لأعمال النزلاء، ويحاوروهم دائما ليعرفوا مشاكلهم وحاجاتهم، ويتبادلون معهم الحديث بشأن أعمالهم الفنية، وفقا للعمري الذي أكّد أنّ "هناك مكتبة لهم، يقرأون فيها من مختلف الأجناس الفنية والأدبية والفكرية، وكلّ هذا يظهر في أعمالهم التي تتحسن باستمرار نتيجة لهذا التثقيف".

وعن العمل مع النزلاء، يوضح العمري أنّ تفاعلهم ومشاركتم يختلفان وفقا لمحكومياتهم، فمن حُكم عليه بالإعدام مثلا، يكون أقل اهتماما، ومشاركتهم غير جادة، "ليست سوى إمضاء لوقتهم ريثما ينفّذ الحكم عليهم، لأن يأسهم يتغلب على عطائهم، فالحكم وارد تنفيذه في أية لحظة، وبشكل عام يندر أن يكونوا غير متفاعلين معنا، خصوصا من يملكون الموهبة، يتم التركيز عليهم من خلال دورات تدريبية مكثفة، فهناك من خرج من المركز إذ انتهت فترة حكمهم، وها هم الآن يواظبون على العمل في الفن التشكيليّ وما زالوا على تواصل معنا، وهنالك تنسيقات مع رابطة الفنانين التشكيليين لمنحهم العضوية وإقامة معارض لهم".
ولاحظ العمري أنه بعد خروج بعض النزلاء قد تغيرت هواجسهم، في البداية كان هاجسهم الأكبر والذي ينعكس على أعمالهم هو نيل الحرية، والآن هواجسهم الإنسانية صارت أبعد من ذلك، حتى طريقتهم في الحديث والمفردات التي يستخدمونها تغيرت، فيتابعون المعارض، ويقرأون أكثر في مختلف الحقول، خصوصا الحقل الفني، "أصبحوا يفكّرون ويتدبّرون فينتّجون".

واجه العمري في بداية الأمر صعوبات عديدة مع النزلاء في التعامل معهم، وتقريبهم من حيّز العطاء الإبداعي، فكانوا متباعدين عن بعضهم البعض، وصعب عليه تقريبهم، لكن من خلال التجمع الدائم والتقائهم في المحاضرات والورشات ازداد اقترابهم من بعضهم وتآلفهم أكثر، كما واجه صعوبات في إقناعهم إيضا في فكرة الفن التشكيلي، لكونه شيء جديد عليهم وغير مألوف لهم، ولم يدركوا في بداية الأمر آثاره عليهم، فكانوا غير مكترثين بالأمر، وهموهم تسيطر عليهم لدرجة تتفوق على قدراتهم في التعاون والإنتاج في مشروع كهذا. وعلى الرّغم من هذه الصعوبات، إلا أن العمري استطاع أن يتواصل معهم، ويضيء لهم الجوانب الإيجابية التي ستصقل من آداءهم على شتى النواحي؛ الاجتماعية والنفسية والفنية، حتى نظموا معرضهم الأول في العام 2009، برعاية وزارة الثقافة وجهود مدير مديرية الأمن العام، ويصف العمري هذه التجربة "بعد كل الصعوبات التي واجهناها، كان المعرض بصمة واضحة وانعكاس لجهودنا مع النزلاء من خلال أعمالهم وإبداعاتهم التي قدموها في هذا المعرض".
ثم كان معرضهم الثاني، في العام 2010، والذي لاقى حضورا على مستوى عال من المهتمين والإعلاميين وذوي النزلاء أيضا والنزلاء أنفسهم، إذ كان خروجهم بفضل مدير الأمن العام ومدير مراكز الإصلاح والتأهيل وبعض الوزارات، "وكل نزيل منهم كان يقف جانب لوحته لكي يناقش المتلقين بشأنها، وهذا من أهم ميزات هذا المعرض، إذ تجلت الأبعاد الإنسانية من خلال هذا الحوار ومن خلال تلك اللوحات". والثالث الذي أقيم منذ أسابيع إذ جاء تزامنا مع عيد ميلاد جلالة الملك "كان الهدف منه تعزيز حب الوطن لدى النّزلاء". 

وهناك استعدادات الآن لإقامة المعرض الرابع، إذ سيتم العمل فيه على مشروع جديد، وهو الرسم على الطين والصلصال، وكما وضح العمري، وفقا لكل الكتب السماوية، فالإنسان خُلق من طين، وعندما يتعامل النزلاء مع هذه المادة "سيقترب من ذاته الجسدية والروحانية أكثر، فجسم الإنسان يشترك مع الطين بأكثر من عشرين عنصر كيميائي، فستكون تجربة غنية ومتميزة، وأقرب إلى إحساس النزيل، ليبدع أكثر إذا شعر بالمواد التي يتعامل معها".

وعن علاقة العمري بالنّزلاء، فيلفت إلى أنها متميزة الآن، فكلهم يحبونه، ولا يحبون لحظة انتهاء عمله معهم، فيماطلون لإبقائه بإعداد الشاي والقهوة له، لكي يظل وقتا أطول برفقتهم، ويجد أن مهمّته هي أمانة في عنقه، فعليه أن يظهر التجارب الفنية لديهم ويرعاها. وعن ما تضيفه له هذه التجربة، يقول العمري "أضافت لي الكثير على الصعيد الإنساني، فلم أعد أتسرّع في الحكم على الناس وإبداء رأيي فيهم، وتعمّق فيّ مفهوم الحوار البنّاء الإيجابي، وعملي المستمر برفقتهم يُضفي على تجربتي خبرة وتؤثر على إنتاجي في عملي الخاص".
ويردف "هناك نزيل سيغادرنا هذا الشهر، يعز عليّ ذلك كثيرا، لأني سأفتقده، فآداءه ونشاطه رائعان، ولديه خبرة في التعامل مع الطين، وأنا بحاجته ليساعدني في تعليم زملائه، لكن فرحي له بالخروج يلحّ عليّ لكي أبقى على تواصل دائم معه"، واستوحى العمري من تجربته مع النزلاء أعمالا سيتم عرضها في حزيران "يونيو" القادم بعنوان "وجوه".

يشار إلى أن العمري حاصل على دبلوم في الفنون الجميلة، له خبرات عملية كثيرة، منها؛ عمل محاضرا في مراكز علمية ومهنية للحرف والفنون الجميلة، محاضرا في عدة ورش لوزارة الثقافة وجمعية صناع الحرف التقليدية، ومنظما في مهرجان الأردن للعام الماضي مع ملتقى الفن التشكيلي من كافة دول العالم، كما شارك في عدة معارض جماعية وفردية، على المستويين المحلي والعربي.






 
نُشر في صحيفة الغد
بتاريخ 28-2-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق