الثلاثاء، 25 يناير 2011

طلال حيدر: قصيدتي بلغة حلمي والشعر العربي بحاجة "لفراهيدي" جديد

الشاعر طلال حيدر. بريشة الزميل إحسان حلمي



فوزي باكير


يحاكي الشاعر طلال حيدر بقصائده المحكية الطبيعة وأسرارها كما يراها هو، بعين الشاعر المتعمّق في جماليّات وتفاصيل الذات الإنسانية الرّيفية البسيطة وعلاقتها مع الطبيعة السحرية.
ونتيجةً لتعمّقه هذا، تكون قصائد، الشاعر المولود في العام 1937 في مدينة بعلبك في البقاع اللبناني، متقاطعة مع الذات الإنسانية الجمعية التي ترهف لصوت خرير الماء وزهر البيلسان، والعشب الذي يبزغ من وجه الجدران العتيقة.


يعتقد حيدر، أن "مصدر شرعية القصيدة المحكية مستمد من كونها شعرًا حقيقيًّا"، مضيفا أن "المحكية تطوّر من الفصحى، من خلال التفاعل الحضاري الإنساني".

ويستدلّ على ذلك من خلال "حلمه"، فبرأيه أن "لغة الحلم مثلا محكيّة وليست فصحى"، مؤكّدًا أن المحكيّة ليست بديلا عن الفصحى، بل مرادفا إبداعيّا لها، بغضّ النّظر عن لغة القصيدة. ويستشهد بقول ابن الأثير "اللغة الأبلغ هي ما يبقى على اللسان".

ويتابع: "الأهم من لغة القصيدة، محكيّةً كانت أم فصحى، هو إمكانيّة بقائها لدى المتلقّي الذي لن يقبل سوى ما هو صادق وبليغ وعميق وجميل". ويضيف "إن وصول القصيدة بأبعادها وعمقها الإنسانيين هو الأهم من أن يصل الشاعر بشخصه للمتلقّي، لأنها ما سيبقى للنّاس، حتّى لو رحل الشاعر، فالخلود للنّص".

وفيما يتعلّق بمسألة الوزن والإيقاع في الشعر، يطرح حيدر هذه القضيّة ضمن مفهوم كونيّة الشعر، إذ إنه يرى أن ربط الشّعر بالموسيقى قديم، منذ الفراهيدي، الذي فعليًّا لم يأتِ ببحورٍ معينة فكتب عليها الشعراء، "بل إن "التوتّر النّفسي" الناتج عن الظروف والانفعالات التي كانت تسكن الشّعراء هو الذي فرض إيقاعاتٍ معيّنة كتبوا عليها، وسمّاها الفراهيدي بحورًا، واليوم نحن بحاجة "لتوتّر سيمفوني" (أي بحور شعر جديدة) يرافق الانفعالات التي يعيشها الإنسان العربيّ، يضعها فراهيدي جديد!".
لعلّ المدوّنة النقدية لم تتناول القصيدة المحكيّة بشكلٍ جاد، إذ قلّما يلاحظ أن ناقدًا ما تناول القصيدة العامية وكاتبها في دراسةٍ أو بحثٍ ما، كما أنه يندر وجود دواوين بالقصائد المحكيّة في المكتبات، وبذلك يعيد صاحب ديوان "سرّ الزّمان" هذا الإهمال للنّقد المتزمّت والمدرسة الاتّباعيّة الحديثة، واللذين لا يقيّمان حركة الكتابة ومنهجها وتطوّرهما عبر المنحنى التاريخي وفق وجهة نظره.
ويوضح أن "هناك من يبقى قابعًا تحت ظلال اللغة المتحجّرة المهجورة، من دون الانتباه إلى أنّ اللغات تتطوّر كي تلبّي حاجات الإنسان ومتطلّباته".
ويستشهد بالشاعر نزار قبّاني، فيرى حيدر أنّ الذي أوصل قبّاني إلى النّاس هو أنه طوّع اللغة لصالح القصيدة، مستخدما الكلام البسيط العذب، فأدّى هذا إلى التماس المرونة في نصوصه وسهولتها، والتي كانت دليلا على إبداعه وقدرته على التّواصل مع المتلقّي.

الاختلاف في الموضوعات التي يتناولها شعراء العامية في لبنان وبين تلك التي يتناولها نظراؤهم المصريون، يعزوه صاحب "لبسوا الكفافي" إلى الفرق بين الهمّ المصري والهم اللبناني، مؤكّدًا أن الشاعرين عبدالرحمن الأبنودي والسيد حجاب هما من أصدقائه المقربين.
ويقول حيدر"الشعر المحكي المصري يسير في منحيين: الأوّل هو (الحدّوتة المصرية)، الذي يصف الحياة المصرية في قراها ومدنها، أما الثاني فهو (الثّورة)، والتي شكّلت أثرا كبيرا في تكوين شعرهم وقصائدهم التي غنّاها الفنّانون هناك".

ويأخذ حيدر على الشعر المحكي المصري أنّه بقي ضمن هذين الإطارين، إذ إنه لم يتجاوز حدود الخريطة المصرية، فلم يلامس الهمّ الإنسانيّ الجمعيّ.
ويستطرد في حديثه عن الظّلم الذي يقع على الشّعراء أحيانا، فشوقي وعرار هما أبناء جيلٍ واحد، وبرأي مؤلف "بغيبتك نزل الشتي" أن شوقي هو الذي اشتُهر، وتم إغفال القيمة الأدبية لعرار. ويحيل ذلك إلى "حياته الصّاخبة والبوهيمية، من دون الالتفات إلى أنه صعلوك مبدع، وصعلوك هنا، ليست بالمعنى السلبيّ الذي يفهمه الناس، فالبوهيمية التي عاشها عرار هي نتاج لمجتمعه الذي عاش فيه، وتقلباته السياسية، وهو صعلوك جميل، ترك خلفه إرثا شعريًّا مهمًّا ورائعًا".
كما تناول الشاعر محمود درويش أيضًا، فوفقًا لحيدر، درويش هو الشاعر الوحيد الذي زار حيدر عندما مرض، قال فيما يخص مشروع درويش الشعريّ: "ظلمت القضية دوريش، وأبقاه بعض المتلقين في بحيرة الجرح الفلسطيني، من دون تقدير مشروعه الشعري الإنساني الذي تناول كافّة الهموم البشرية الإنسانية بصيغة شعريّة عميقةٍ خاليةٍ من الخطاب المباشر".
غنّى لحيدر كبار الفنّانين الملتزمين في لبنان، مثل فيروز ومارسيل خليفة وأميمة خليل وغيرهم، إذ حملوا أغانيه برقّة أصواتهم، لتدخل البيوت دونما استئذان، رقيقةً ودافئةً، ويردّدها الجميع منتشيًا.

بلغةٍ عربيّة فصحى ومرنة، وضّح صاحب قصيدة "وحدن"، مسألة ارتباط القصيدة المحكيّة بالأغنية، إذ إنّها لا تستمدّ شرعّيتها من كونها مغنّاة، فكم هنالك من "شعر" قد يكون بالفصحى، لكنه في الحقيقة لا يرقى ليكون شعرًا، وبالمقابل هناك نثر يتفوّق على الشّعر لجماليّات حقيقية موجودة في النّص.

يُروى أنّ هناك قصّة لأغنية "وحدن"، يُختصر مفادها أن ثلاثة فلسطينيين قاموا بعملية فدائيّة ضدّ إسرائيل، وعند تخطيطهم لها كانوا يمرّون يوميّا من قرب بيت حيدر ويدخلون الغابة.. ولا يخرجون إلا عند المساء، وذات يوم دخلوا ولم يخرجوا، وإذ بخبر يعلن عن استشهاد ثلاثة فدائيين بعملية.. لفت حيدر إلى هذه القصيدة مؤكّدا عدم صحّة تلك القصة، موضّحا بصوتٍ شاحب: "(وحدن)... كُتبت لابن بلدي، البقاع، حيث تثلج عليه، ويبقى وحيدًا لا يرافقه سوى صوت عواء "الدّيب"، والرّياح..."



·       نُشر في صحيفة الغد
بتاريخ: 22-12-2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق