الثلاثاء، 25 يناير 2011

محمد الثبيتي.. يرحل بعد تجربة شعريّة مختلفة ومكثّفة

الشاعر محمد الثبيتي. بريشة الزميل إحسان حلمي


فوزي باكير





"أَيَا مُورِقاً بالصبايا
ويا مُترَعاً بلهيبِ المواويلِ
أَشعلْتَ أغنيةَ العيسِ فَاتَّسعَ الحُلْمُ
فِي رِئَتَيكْ
سَلامٌ عَليكَ
سلامٌ عَليكْ"
 
لعلّ كلماته تلك، هي التي تليقُ بوصف رحيله وتلقي عليه السلام الأخير. الشاعر السعوديّ محمد الثبيتي، الذي رحل يوم الجمعة، 14-01-2010، في ساعةٍ متأخر من مسائه، بعد صراع طويل مع قلبه الذي أطفأته أزمة حادَة يعاني منها منذ عام، بعد عودته من رحلة أدبيّة أمضاها في اليمن.
 
ولد الشاعر محمد عواض الثبيتي في العام 1952 في مدينة الطّائف، حصل على بكالوريوس علم الاجتماع وعمل في وزراة التربية والتعليم.
 
صدرَ له خمسة مجموعات شعرية؛ موقف الرّمل، التضاريس، بوابة الريح، تهجّيتُ حلما.. تهجّيت وهما، عاشقة الزّمن الورديّ. امتازت أعماله الشعريّة بقلّة عدد القصائد فيها، إذ تراوحت بين تسع قصائد وأربع عشرة قصيدةً في كل مجموعة، ورغم إقلاله، لكنّ أعماله اتّسمت بالكثافة وعمق الطّرح وهاجس الذّات الإنسانية التي تحاور نفسها، وتجوب في أعماق هذا الكون باحثة عن الحقيقة. فمن قصيدته "ترتيلة البدء" :
 
"جئتُ عرّافاً لهذَا الرَّملِ
أسْتَقْصِي احتِمَالات السَّوادْ
جئتُ أبْتَاعُ أسَاطيرَ
ووقتاً ورمَادْ
بينَ عينيَّ وبين السبتِ طقسٌ ومدينةْ
خدرٌ ينسابُ من ثدي السَّفِينةْ
هذه أولى القرَاءاتِ
وهذا ورقُ التِّينِ يبوحْ
قُلْ: هُو الرَّعدُ يُعرِّي جسدَ الموتِ
ويستثني تضاريس الخصوبةْ.."
 
حصل الثبيتي على عدّة جوائز، مثل جائزة نادي جدّة الثقافي عن ديوانه "التضاريس" في عام 1991، الذي عاين فيه المرأة حينًا، فمن قصيدته "آياتٌ لامرأةٍ تضيء" والتي كان مطلعها:
 
"حينَ تَنْطَفِئُ امْرأةٌ فِي السَّرابْ
أَمتطِي صهوةَ الرملِ
أشْهرُ أجنحتي للعذابْ
أمُدُّ لها كَفَناً في المدى
وأعَمِّدها بالترابْ"
 
واختتمها بـ
"حينَ تَنطفِئُ امرأةٌ فِي دمِي
أَكْتَوِي بالزمانِ الرَّدِيءْ
أكَلِّلُهَا بالودَعْ
وأَسكُبُهَا فِي مكانِ الوجَعْ
فتضِيءْ!.."
 
وألقى بديوانه ضوءًا على صعلكته وتمرّده، بقصيدةٍ اسمها "الصعلوك"، منها:
 
"يفيقُ منَ الجوع ظُهراً
ويبتاعُ شيئاً منَ الخبز والتمر والماءِ
والعنبِ الرازقيِّ الذي جاءَ مُقتحماً
مَوسِمَهْ
-
مَنْ يُعلِّمُنِي لعبة مُبْهَمَةْ
-
تَرَجَّلْ عنِ الجَدْبِ واحْسِبْ خطاياهُ
واسْفكْ دَمَهْ..."
كما حصل على جائزة أفضل قصيدة في الدورة السابعة لمؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري  عام 2000 عن قصيدته المطوّلة "موقف الرّمال.. موقف الجناس"، والتي عاين فيها ذاته الإنسانيّة الغارقة في توحّدها مع الطبيعة والحزن، مفعمةً بالأسئلة الكونية أسئلة التّرحال والاغتراب، وحيرة الإنسان في نأيه واقترابه من نفسه:
"أَنْتَ والنَّخْلُ صَنْوانِ
هَذَا الذي تَدَّعِيهِ النَّيَاشِينُ
ذَاكَ الذي تَشْتَهِيهِ البَّسَاتِينُ
هَذَا الذي
دَخَلَتْ إلَى أَفْلاكِهِ العَذْرَاءْ
ذَاكَ الذي
خَلَدَت إلَى أَكْفَالِهِ العَذْرَاءْ
هَذَا الذي فِي الخَرِيفِ احْتِمَالٌ
وذَاكَ الذي فِي الرَّبِيعِ اكْتِمَالْ.."
 
وجاء فيها أيضا
 
"يَا طَاعِناً فِي النَّأي
إسْلَمْ ،
إذَا عَثَرَتْ خُطَاكْ
واسْلَمْ ،
إذَا عَثَرَتْ عُيُونُ الكَاتِبِينَ عَلَى خَطَاكَ
ومَا خَطَاكْ ؟!
أَنِّي أحَدِّقُ فِي المَدِينَةِ كَي أَرَاكَ
فَلا أَرَاكْ
إلاَّ شَمِيماً مِنْ أَرَاكْ .."
كما حصل صاحب قصيدة "ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء" على جائزة ولقب "شاعر عكاظ" عام 2007 في حفل تدشين فعاليات مهرجان سوق عكاظ التاريخي الأول.
 
ويلاحظ في شعر الثبيتي تأثر الشديد في بيئته الجغرافية الصحراوية، لكنّه يتميز بإعادة تشكيلها واستثمارها وتكريسها في قصائده بأسلوب جديد متميّز، خرج فيه من دائرة التّكرار، وأتى بصور جديدة يحاكي بها ذاته من خلال هذه الجغرافية القاسية، واستحضار رموز الصوفية. كما أنه امتاز في المزج بين شعريّ "العمودي" و"التفعيلة" في نفس القصيدة أحيانا، ففي قصيدة "تغريبة القوافل والمطر" ظهر هذا المزج بشكل سلس وعميق، فتبدأ القصيدةُ بمقطع تفعيليّ:
"أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
صُبَّ لنَا وطناً فِي الكُؤُوسْ
يُدِيرُ الرُّؤُوسْ
وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
واسْفَحْ علَى قِلَلِ القَومِ قَهْوتَكَ المُرَّةَ
المُسْتَطَابَةْ.."
وبعد انتهاء المقطع، ينتقل الإيقاع برشاقة إلى مقاطعَ شعريّة عمودية:
"أَلاَ دِيمَةً زَرقاء تَكتَظُّ بالدِّمَا
فَتَجْلُو سَوادَ الماءِ عَنْ ساحِلِ الظَّمَا
أَلاَ قَمَرًا يَحْمَرُّ فِي غُرَّةِ الدُّجَى
ويَهْمِي على الصحراءِ غيثاً وأَنْجُمَا
فَنَكْسُوهُ مِن أحزاننَا البيضِ حُلَّةً
ونتلُو على أبوابِهِ سُورةَ الحِمَى.."
وضّح أصدقاء الثبيتي من خلال كلماتهم في رحيله أنه لم يجد من يرعاه صحّيا ويظل مشرفا على حالته الرديئة التي سببتها له جلطة في قلبه، رغم مرور أكثر من خمسة أشهر على تدهور وضعه وتنقله بين المشافي دون جدوى، وفق أصدقائه الذي يُعرف بينهم بـ "سيّد البيد"، وهذ اللقب مقتبسٌ من قصيدته "تحية لسيّد البيد" التي جاء خطابها بضميرِ "أنتَ"، أي هو، هو الثبيتي الذي يبصر نفسه في مرآة روحه، مخاطبا إياها:
 
"سَتَمُوتُ النُّسُورُ التي وَشَمَتْ دَمَكَ الطفلَ يوماً
وأنتَ الذي  في عروقِ الثرى نخلةٌ لا تَمُوتْ
مَرْحَباً سَيَّدَ البِيدِ ..
إنَّا نَصَبْنَاكَ فَوقَ الجِرَاحِ العَظِيمَةِ
حَتَّى تَكُونَ سَمَانَا وصَحْرَاءَنَا
وهَوانَا الذِي يَسْتَبِدُّ فَلاَ تَحْتَوِيهِ النُعُوتْ
سَتَمُوتُ النُّسُورُ التي وَشَمَتْ دَمَكَ الطفلَ يوماً
وأَنْتَ الذي فِي حُلُوقِ المَصَابِيحِ أغْنِيَةٌ لاَ تَمُوتْ.."
 
مُنهيا القصيدة:
"إنَّا انْتَظَرْنَاكَ حَتَّى صَحَونَا عَلَى وقْعِ نَعْلَيكَ
حِينَ اسْتَكَانَتْ لِخُطْوَتِكَ الطُّرُقَاتُ
وألْقَتْ عليكَ النوافذُ دفءَ البيوتْ.."
 
 
 
نُشر في صحيفة الغد
بتاريخ 16-01-2011
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق