لعلّ كلماته تلك، هي التي تليقُ بوصف رحيله وتلقي عليه السلام الأخير. الشاعر السعوديّ محمد الثبيتي، الذي رحل يوم الجمعة، 14-01-2010، في ساعةٍ متأخر من مسائه، بعد صراع طويل مع قلبه الذي أطفأته أزمة حادَة يعاني منها منذ عام، بعد عودته من رحلة أدبيّة أمضاها في اليمن.
ولد الشاعر محمد عواض الثبيتي في العام 1952 في مدينة الطّائف، حصل على بكالوريوس علم الاجتماع وعمل في وزراة التربية والتعليم.
صدرَ له خمسة مجموعات شعرية؛ موقف الرّمل، التضاريس، بوابة الريح، تهجّيتُ حلما.. تهجّيت وهما، عاشقة الزّمن الورديّ. امتازت أعماله الشعريّة بقلّة عدد القصائد فيها، إذ تراوحت بين تسع قصائد وأربع عشرة قصيدةً في كل مجموعة، ورغم إقلاله، لكنّ أعماله اتّسمت بالكثافة وعمق الطّرح وهاجس الذّات الإنسانية التي تحاور نفسها، وتجوب في أعماق هذا الكون باحثة عن الحقيقة. فمن قصيدته "ترتيلة البدء" :
بينَ عينيَّ وبين السبتِ طقسٌ ومدينةْ خدرٌ ينسابُ من ثدي السَّفِينةْ هذه أولى القرَاءاتِ وهذا ورقُ التِّينِ يبوحْ قُلْ: هُو الرَّعدُ يُعرِّي جسدَ الموتِ ويستثني تضاريس الخصوبةْ.."
حصل الثبيتي على عدّة جوائز، مثل جائزة نادي جدّة الثقافي عن ديوانه "التضاريس" في عام 1991، الذي عاين فيه المرأة حينًا، فمن قصيدته "آياتٌ لامرأةٍ تضيء" والتي كان مطلعها:
"حينَ تَنْطَفِئُ امْرأةٌ فِي السَّرابْ أَمتطِي صهوةَ الرملِ أشْهرُ أجنحتي للعذابْ أمُدُّ لها كَفَناً في المدى وأعَمِّدها بالترابْ"
كما حصل على جائزة أفضل قصيدة في الدورة السابعة لمؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري عام 2000 عن قصيدته المطوّلة "موقف الرّمال.. موقف الجناس"، والتي عاين فيها ذاته الإنسانيّة الغارقة في توحّدها مع الطبيعة والحزن، مفعمةً بالأسئلة الكونية أسئلة التّرحال والاغتراب، وحيرة الإنسان في نأيه واقترابه من نفسه:
"أَنْتَ والنَّخْلُ صَنْوانِ هَذَا الذي تَدَّعِيهِ النَّيَاشِينُ ذَاكَ الذي تَشْتَهِيهِ البَّسَاتِينُ هَذَا الذي دَخَلَتْ إلَى أَفْلاكِهِ العَذْرَاءْ ذَاكَ الذي خَلَدَت إلَى أَكْفَالِهِ العَذْرَاءْ هَذَا الذي فِي الخَرِيفِ احْتِمَالٌ وذَاكَ الذي فِي الرَّبِيعِ اكْتِمَالْ.."
كما حصل صاحب قصيدة "ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء" على جائزة ولقب "شاعر عكاظ" عام 2007 في حفل تدشين فعاليات مهرجان سوق عكاظ التاريخي الأول.
ويلاحظ في شعر الثبيتي تأثر الشديد في بيئته الجغرافية الصحراوية، لكنّه يتميز بإعادة تشكيلها واستثمارها وتكريسها في قصائده بأسلوب جديد متميّز، خرج فيه من دائرة التّكرار، وأتى بصور جديدة يحاكي بها ذاته من خلال هذه الجغرافية القاسية، واستحضار رموز الصوفية. كما أنه امتاز في المزج بين شعريّ "العمودي" و"التفعيلة" في نفس القصيدة أحيانا، ففي قصيدة "تغريبة القوافل والمطر" ظهر هذا المزج بشكل سلس وعميق، فتبدأ القصيدةُ بمقطع تفعيليّ:
وضّح أصدقاء الثبيتي من خلال كلماتهم في رحيله أنه لم يجد من يرعاه صحّيا ويظل مشرفا على حالته الرديئة التي سببتها له جلطة في قلبه، رغم مرور أكثر من خمسة أشهر على تدهور وضعه وتنقله بين المشافي دون جدوى، وفق أصدقائه الذي يُعرف بينهم بـ "سيّد البيد"، وهذ اللقب مقتبسٌ من قصيدته "تحية لسيّد البيد" التي جاء خطابها بضميرِ "أنتَ"، أي هو، هو الثبيتي الذي يبصر نفسه في مرآة روحه، مخاطبا إياها:
"سَتَمُوتُ النُّسُورُ التي وَشَمَتْ دَمَكَ الطفلَ يوماً وأنتَ الذي في عروقِ الثرى نخلةٌ لا تَمُوتْ مَرْحَباً سَيَّدَ البِيدِ .. إنَّا نَصَبْنَاكَ فَوقَ الجِرَاحِ العَظِيمَةِ حَتَّى تَكُونَ سَمَانَا وصَحْرَاءَنَا وهَوانَا الذِي يَسْتَبِدُّ فَلاَ تَحْتَوِيهِ النُعُوتْ سَتَمُوتُ النُّسُورُ التي وَشَمَتْ دَمَكَ الطفلَ يوماً وأَنْتَ الذي فِي حُلُوقِ المَصَابِيحِ أغْنِيَةٌ لاَ تَمُوتْ.."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق