الثلاثاء، 25 يناير 2011

كتاب المدرسة في الصفّ الأول.. صفحاتٌ مليئة بالأناشيد.. وبقع الزّيت




فوزي باكير


بين طيّاتِ تلك الكتب، ونغماتِ الأناشيد المتصاعدة من صفحاتها، وصور الأطفال  والأرانب والطيور، ما زالت أصابعهم تلهو، وذاكرتهم تُقلّب الصّفحات، تتجوّل بين الأسطر الصغيرة، ثمّ يعودون إلى منازلهم، سيرا على أقدامهم، أو في باص المدرسة، يُنشدون ما حفظوا من أغاني الوطن والأم والمطر.


علاء، شاب يبلغ من العمر 25 عاما، يعملُ الآن مهندسا، أطال تحديقَه في صور كتاب اللغة العربيّة للصّف الأوّل الابتدائي، قرأ الأناشيد المكتوبة، واسترسل في الكلام
"أيامها كانت أبواب الخيال مشرعة، وكنا نخلق من تلك الرسومات البسيطة ومن تلك الأغاني أجملَ العوالم والذكريات، أما الآن، فتكنولوجيا الأبعاد الثلاثية لم تُبقِ لدى خيال أطفالنا شيء"
ثمّ أخذ يُرددُّ بهمسٍ
"فلسطين داري ودرب انتصاري"
وصمتَ قليلًا، وأردف:
"في تلك الأيام كان الحب يحكمنا. أحنُّ لبيتي الشعبي في حي نزال ورفاق طفولتي وشغبي الجميل وبقع الزيت والزعتر على الرسومات التي كنّا نرسمها."

وهبة، بدت في غاية الفرح، ولمعت عيناها لدى رؤيتها لهذه الصور، وتنهّدت
"وأنا أرنو إلى الصور،  شممت رائحَة الكتب والدفاتر، وتذكرت فورا أيام المدرسة الأولى والبدء بتجليد الكتب والدفاتر ولصق الطوابع وذهابي مع والدتي إلى السوق لشراء حقيبة المدرسة والمريول الأزرق "ياااااااه" كم كانت جميلة تلك المرحلة التي كان أكبر هم فيها حل الواجب المدرسي بسرعة كي نستطيع اللعب بالحارة مع الأولاد أكبر وقت ممكن
وأتذكر كم كنت أستمتع وأنا أحفظ هذه الاناشيد بصوت عال جدّا وأرددها كلما استطعت.."

بينما لينا، والتي كان انطباعها مشتركا بين انطباعيّ علاء وهبة، فتذكّرت ذات التفاصيل التي استحضرها كل منهما على حدة، فقد بدت على وجهها ملامح الطفولة واضحة، وابتسمت مغمضةً عينيها، وأخذت نفسا عميقا، ثمّ شهقت
"تذكرتُ رائحة الكتب والقصص التي كنا نشتريها، واختلاطها بالزيت والزعتر الذي كنا نحمله في حقائبنا، وتذكرت عندما كنا نستخدم الممحاة، يبقى فتاتها عالقا بين طيّات الكتاب، وننفخُ عليها وننفضها عن الكتب."

أما ديمة، فتفاجأت بالصور، للوهلة أولى وجدَت أن الصور شيئا غريبا عليها، بالكاد تعرّفت عليها
"من خلال تصفحي لهذه الصور، شعرت بأني أعاني من الزهايمر، فلم تسعفني ذاكرتي إلا عندما قرأت محفوظة "عمّي منصور النّجار"، شعرت بأني طفلةٌ لا تتجاوز السّتة أعوام، تحاول والدتها أن تُفرئها إيّاها، ولا ضير من حفظ بعض أشطارها.
اجتاحتني ابتسامة كبيرة عند قراءتي لها، وبدأتُ "أدندن" ترانيم معيّنة، كانت تساعدني على حفظ أبياتها."

وكذلك حالُ "منى" أيضا، لوهلةٍ ما خانتها ذاكرتها، لكنها سرعان ما بدأت تتذكّر تلك الطّفلة التي كانت ومازلت تُغنّي
"صباحُ الخيرِ يا أمّي
صباحُ الخيرِ يا أبتِ
حفظتُ اليومَ أغنيةً
وذابَ السِّحرُ في شفتي"
 "في باديء الأمر اعتقدت أنني نسيت هذه الصور، ولم يبق منها في ذاكرتي شيئ، إلا أنني بعد مرور عدّة صور، استيقظت ذاكرتي قليلا، لامَست الصور ما في داخلي من حنين إلى تلك الأيام الماضية التي صبغتها  الطفولة والبراءة.
باسم ورباب وميسون وغيرها من الأسماء التي انطبعت بذاكرتي منذ الصغر وما أن أسمع إحدى هذه الأسماء، حتى يتبادر لذهني الأشهر الأولى من المدرسة التي يغمرها الجد والنشاط والرغبة في اكمال كل واجباتي، لتعود بي إلى تلك الأدراج الخشبية البالية التي كانت تملأ الصف والتي رفضت تماما أن أجلس عليها في الأيام الأولى من المدرسة.
 وأكثر ما أثر فيّ وانطبع في ذاكرتي أنشودة "صباح الخير يا أمي" ومازلت أدندنها على لساني بعفوية، والتي كانت أول أنشودة أرددها لأمي في عيدها ولن أنسى أبدا تلك الفرحة الغامرة التي امتلأت بها تعابير  وجهها ذلك الحين."

ووضّح الطبيب النفسي الدكتور محمد الشّوبكي ردود الأفعال اتجاه هذه الصور من ناحية علميّة، فعندما يرى الإنسان هذه الصور تعود به إلي ماضيه، فيشعر في هذا اللحظة أنّه طفل، وتأتي ردّة فعله بناءً على علاقته بالمدرسة في ذلك الوقت.
"فإن كان يكره المدرسة قد يصابُ بالاكتئاب، أو النّفور من تلك الصّور، وسيظهر ذلك بشكل سريع على لغة جسده من خلال تعابير وجهه لدى رؤيته لتلك الصور، وربما كان يخاف من المدرسية، بسبب انفصاله عن أهله مثلا، فسيبدو الخوف على ملامح وجهه، وقد يرتجف ويصاب بخنقة."

بينما غالبيّة الذين شاهدوا الصور، كانت ردود أفعالهم على العكس تماما، فتذكّروا تلك الأيام بشيء من الحميميّة، حيث قال د. الشوبكي
"إذا كان الطفل في ذاك الوقت متحمّسا للمدرسة ومقبلا على الذهاب إليها، سيشعر بالنشوة والفرح عند رؤيته للصور، ويظهر هذا أيضا من خلال ردود أفعاله الجسدية."

وهذا ما حصل مع "محمود"، الذي يُكملُ دراساته العليا، فعندما شاهد الصّور أخذ يقفزُ كأنّه طفلٌ في تلك المرحلة، ويضعُ يدَه على رأسه فرحا ومتفاجئا بما يرى، ويقول بحماسة عالية:

"كنّا نشتري القصص بخمسة عشر قرشا فقط، ونقرأها باستمرار، ونتبادلها مع أصدقائنا وأبناء الجيران، وأغنية "ماما ماما يا أنغاما" أعادتني إليّ صغيرًا، جالسا في الصّف، وصوتنا يصدح ويردّدها، وشَعري مفروقٌ على جنب!"

هي صورٌ، كنّا نظنّ أنّا نسيناها، أو أنّها ذهبت في مهبّ الماضي، ولم نُدرك أنّها ما زالت موجودة هناك، في مكانٍ ما، على ضفاف الذّاكرة اليانعة في قلوبنا...

نُشر في صحيفة الغد
بتاريخ 17-01-2011



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق