الأربعاء، 30 مارس 2011

محجوب العياري: منجز شعري قصير تنبأ برحيله المباغت

الشاعر الراحل محجوب العياري بريشة الزميل إحسان حلمي - (الغد)


عام على رحيله ..





فوزي باكير








"... سأنسى أكاذيب نخلتنا آخر اللّيل.
- هل يكذب النخل ؟
* طبعا، كما تكذب الدّالية
 وهل يكذبُ البحر؟
* سلْ عنه أفراسه واليتامى.
- وهل يكذبُ البرق والرّعدُ؟ 
هل تكذب الرّيحُ ؟
* كذّابةٌ كلُّها والغمامُ.
- والفراشاتُ مغسولةً بالنّدى… والقَطا؟
* كذاك الحَمامُ.
- وأمّي؟ وجارتُنا؟ والنّدامى؟
* جميعا، ولو صدقُـوا!
-
 على من سأتلو أناشيد حبّي إذنْ، 
وبي منه ما لو تلوتُ على جبلٍ...؟ * على لا أحدْ.
 والمحبّون ؟ 
أليس المحبّونَ مثلي شَفيفينَ حدّ البكاء؟!
* كذلك كانوا.
 ألم يبقَ منهم صَدٍ واحدٌ يحتفي بانكساري ؟
* لقد لـمْلمُوا في الأماسي مزاميرهم، 
ثمّ راحوا
-       بعيدا ؟
 
إلى اللاّمكان.
 سألحقُهم.
*
 عرفتَ الطّريق؟
  أجلْ أشهدُ الآن أنّي عرفتُ الطّريق!"


... ولعلّه صدق نفسه ولحق بهم، لحق بمن يحبّ، قلبُه الذي اختطفه صغيرًا كان دليله ليمضي في تلك الطريق، بمنجزٍ شعريٍّ لم يتح العمر له أن يستمرّ أكثر، لكن كان فيه متّسعٌ ليقدّم في تسعةٍ وأربعين عاما بصمتَه الشعريّة.


ثيمة العشق عند العياري، المولود في العام 1961، في ولاية بنزرت التونسية، كانت واقعة بين عشقه للموت، وعشقه للأنثى/ الحياة. فالموت كان حاضرا جليّا بشدّة في شعر العياري منذ بداياته، وكأنه كان يتنبّأ برحيله المبكّر والمفاجىء، فقلبه خانه، وصمتَ للأبد.

"تأخرتُ...
يا سيدي الموتُ، معذرةً
فقد كان يلزمني أن أُقبِّلَ أُمّي
وقد كان يلزمني أن أرى إخوتي والأحبّةْ
تأخّرتُ
قدْ ساءني أن أُوافيكَ مرتبكا أو حزينا
وقدْ ساءني أنْ أُوارى، وخلفي ديونٌ لخمّار قريتنا،
للمُؤجّر،
بيّاعةِ التّبغ، والخضرواتِ القديمةِ... خلفي ديونٌ لمن باعني ذات يوم دُواةً، وديوان شعرٍ، وكرّاسةً للكتابةْ" ...

والمفارقة أنه كان يحب الحياة كثيرا، التي تمثلها في الأنثى والخمر وغيرها من التفاصيل الحياتية التي كانت تجعل منه مقبلا عليها، كان عاشقا للنقيضين! أما الموت، فلعلّه موت مجازيّ، الموت الذي ينتج عن إهمال المبدع وعدم الاكتراث به، وأمّا الحياة، فهي المرأة والمدينة والأصدقاء والمحبون الحقيقيون.

"فأنا لن أنتحر على الإطلاق، ولن أجعل أعدائي يظفرون بيوم كهذا... وفوق ذلك كله، فـفكرة الانتحار لم تراودني قط، بل إني أحبُّ الحياة حد الافتتان، وأنا مقبل على غلاّتها وفواكهها بكل ذرّة في كياني... وأعتقد أن ليس من الصّواب أن يموت المرءُ ويترك كل هذه الدنيا بنسائها الرّائعات، وخمورها الجيدة، وأفراحها التي لا تنتهي..."

وتوّج العيّاري، المتحصل على الأستاذية في التوثيق وعلوم المكتبات وعضوية اتّحاد الكتّاب التونسيين، هذه الثيمة، عشقه للموت، بقصيدته المشهورة "عن الموت وعن حماقات أخرى (1)" وبالنص النثريّ "عن الموت وعن حماقات أخرى (2)"، إذ أحسّ أن الموت بدأ يقترب منه، ليطرق بابه، ويصطحبه وإيّاه بعيدا، بعيدا جدّا عن هذه الدنيا التي يحبّ. واتّسم النصّان بنـزقهما في مخاطبة الذين سيدّعون أنهم أصدقاءه بعد رحيله، أولائك الذين يتسلّقون على الأسماء كي يظهروا هم أيضا كرفاق وأحباب للشاعر، فجاء في القصيدة:

"ستُـعيدُ بعضُ صحائفٍ نشرَ القديمِ من الحواراتِ القليلهْ 
بعضُ اللُّصوص سيحتمي بظِلال مسبحةٍ كذوبٍ 
 .. ثمّ يتلو ما تردّد عن عذاب القبرِ 
عُشّاق صغار، ساسةٌ حمقى، سماسرةٌ، نهاريُّـونَ، كُـتّابٌ بلا كُتبٍ، وحُجّابٌ بلا حُجُبٍ، وحطّابون في ليل القصيدة دونما قبسٍ، ومشّاؤون نحو ولائم،السُّــرّاقِ سوف يردّدون جميعُهم: 
محجوبُ مِـنـَّـا 
نحن حذّرناهُ أنّ العشقَ، مثل الخمر، مثل الشّعرِ قاتلْ 
محجوبُ مِـنـّـا 
..
نحنُ أطعمناه من جوعٍ، وآمنّاه.. كان لنا رفيقاَ ..."

لكنّه لم يتوانَ عن التصدّي لهم، والبراءة منهم جميعا:

"لستُ منكم  
لمْ أُرافقْ غير جُــوعي 
لستُ منكم 
لمْ أُرافقْ غير حُــزني 
لستُ منكم  
لمْ تُـرافقني سوى أُنثى أنا أوغلتُ في دمها.. فمعذرةً 
سوى صحبٍ قليل عـدُّهُـمْ 
لكنّهم كانوا صباحي 
لستُ منكمْ  
لستُ من أحدٍ..."

أما عن عشقه للأنثى / الحياة، فدائما كانت تحضر في قصائده حبيبته التي يتنوع خطابه فيها بين العاشق الباذل في عشقه، وبين المعاتب، وبين الرّاحل والنائي، بين النرجسيّ المعتدّ بنفسه.


"لو كان لي ألـفُ نفسٍ كـنتُ أُشعلها 
في مذبـح العشـقِ نشوانا ومُحتفلا
ما همّني أن يقولُوا ضلّ صاحبُكم 
أو أن يقولُوا: لقد أسرى وما وصلا
آمنتُ بالعشق دربًا ليس يُوصلُني
فالعشق أعذبُهُ أن لا وصول... ولا.."


كما اتّسمت قصائد صاحب "سلّةٌ ملأى بالنوّار الأبيض"، الذي ترأس جمعية أحبّاء المكتبة والكتاب بنابل، بكثرة الوصف فيها، إذ يتطرق العياري كثيرا لوصف تفاصيل الوقت والمكان، لحدّ التماهي أحيانا بينهما، وتصبح القصيدةُ عالمًا مُطلقا، يستدعيه خياله، فيمعن المتلقي معه في رحلة في عالم آخر، يدعو للتّأمّل، فاللون الأزرق من الثيمات التأملية التي استحضرها كثيرا في قصائده، لتكون السّكينةُ حاضرة في النّص ولها أثرها على قارئها:

"لن تسألَ صاحبتي أين سنمضي... لن أسألها
قد يُغرينا البحر فنصنعَ طوفاً
ثمّ نسافر خلف تخومٍ لا نعرفُها...
قد يحملُنا العشقُ إلى أنهارٍ أو غاباتٍ
سوف نصيدُ أرانبَ، بجعا، سمكا،
سوف نُربّي مهرا أزرقَ... سوف نُغنّي
أو قد نتحول درويشين نُطوِّفُ في الآفاق
ونرقُصُ حين يفيضُ الوجدُ
سأجعلُ نايي يَبكي حتّى يُبكي،
والدّرويشةُ صاحبتي سترقُّ وترقُصُ، ترقُصُ حتّى نصعدَ فوق الغيم..."

وعن علاقة صاحب ديوان "حالات شتى لمدينة" الذي صدر في العام 1990،  في المكان، ووصفه إيّاه، نالت مدينة البتراء حيّزا بين قصائده، يظهر فيها افتتانه بهذه المدينة التي تلعثم عند أبوابها، وبدت حيرة وصف المكان في القصيدة جليّة:

"سِرنا تحت الشّمس...
إلى أن سطعت شمسٌ أخرى:
شمسٌ تسطع من أعماق الصّخر، فَتَنشأُ لغةٌ أُخرى:
لغةٌ وردٌ، أو كالورد تَدَفَّقُ مثل الماء على ألسنة الصّخر، وتشدُو...
لغةٌ لا يفقهها غيرُ العارفِ بالأسرار الأولى.."

ثمّ راح يستنجد "بهارون" لكي يعينه على وصفها، لكنّه لم يجد جدوى من وصفه لهذا الجمال، فتركه لكي يتحدّث عن نفسه، فختم القصيدة:

"لم تُسعفْني لُغتي،
عند المذبحِ، في البتراءِ، عقرتُ لِسانِي.
قلتُ ضَلالٌ لُغتي، والحكْمةُ قولُ البتراء..."

رحل العيّاري خلسةً، كان الخبر قد فاجأ أصدقاءه ومحبيه، دون أن يأخذ حقّه في ساحة الشّعر العربيّ، لكنّ منجزه الشعريّ القليل يؤكّد أنه شاعرٌ حقيقيّ، فحاز على الجائزة التقديرية الأولى للإبداع وزارة الثقافة التونسية 1994، ولعلّه ظفر بالموت ولم يظفر الموت به، لأنه أراد ذلك، دونما ترددّ، ذهب إليه لكي لا يرى أحد ما يمسح وجهه من حزن وتعب.

" يمرّ على بائع للجرائد
يفتّش في صفحة الميّتين
ينقّب بين الأسامي وبين الصور
ويغرق في صفحة الميتين
ولكنه منذ عشر خلت
لم تصادفه صورته
أو رأى اسمه بين كل الأسامي
لذلك يبدو حزينا
حزينا
حزينا..."







نُشر في صحيفة الغد الأردنية
بتاريخ 30-03-2011

هناك 3 تعليقات:

  1. مؤسف جدا ان اتعرف على العياري بعد موته .. صِدقاً لم أعرفه الا بعد أن قرأت الطرح الرائع الذي قدمته عنه.. اسلوب مميز يعشقه الفضول ليُكمل ما بدأ بقراءته فإن كتبت مجلداً بهذا الطرح أعدك بأني سأقرأ كل حرف فيه .. لا تبت يداك .. بالفعل رائع ..

    ردحذف
  2. الله يا صديقي !
    لفتة لطيفه جداً

    احمد عقل

    ردحذف